الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والترمذي وابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة».وأخرج البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها ذكر عندها الزيت فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن يؤكل ويدهن ويسعط به ويقول أنه من شجرة مباركة وهو في حد ذاته ممدوح، ففي الحديث أنه مصحة من الباسور وذكر له الأطباء منافع كثيرة، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل الخبز وأكل عليه الصلاة والسلام اللسان مطبوخًا بالشعير وفيه الزيت والتوابل فليحفظ.وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن علي وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش {توقد} بالتاء المثناة من فوق مضارع أوقدت مبنيًا للمفعول على أن الضمير القائم مقام الفاعل للزجاجة وإسناد الفعل إليها قيل على سبيل المبالغة، وقيل هو بتقدير مضاف أي مصباحها.وقرأ الحسن والسلمي وقتادة أيضًا وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم {توقد} بالتاء الفوقية أيضًا مضارع توقد وأصله تتوقد بتاءين فخفف بحذف أحدهما.وذكر الخفاجي أنها قراةء أبي عمرو وابن كثير والإسناد فيها للزجاجة على ما مر.وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضًا {دُرّىٌّ يُوقَدُ} بالياء التحتية على أنه مضارع توقد أيضًا، وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن، وأصله يتوقد أي المصباح فحذفت التاء وهو غير معروف مع الياء وإنما المعروف هو الحذف عند اجتماع التاءين المتماثلين.ووجه ذلك على ما قال ابن جني أنه شبه فيه حرف مضارعة بحرف مضارعة يعني الياء بالتاء فعومل معاملته كما شبهت التاء والنون في تعد ونعد بياء يعد فحذف الواو معهما كماحذفت فيه لوقوعها بين ياء وكسرة.وقرىء {توقد} بالتاء من فوق على صيغة الماضي من التفعل والضمير للمصباح أي ابتداء توقد المصباح من شجرة.{زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شيء من حين تطلع إلى أن تغرب وذلك أحسن لزيتها، وروى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والكلبي وهو تفسير بلازم المعنى أعني به كونها بين الشرق والغرب.وعن ابن زيد أي ليست من شجر الشرق ولا من شجر الغرب لأن ما اختص بإحدى الجهتين كان أقل زينًا وأضعف ضوأ لكنها من شجر الشام وهي ما بين المشرق والمغرب وزيتونها أجود ما يكون، وقال أبو حيان في تذكرته: المعنى ليست في مشرقة أبدًا أي في موضع لا يصيبه ظل وليست في مقناة أبدًا أي في موضع لا تصيبه الشمس، وحاصله ليست الزيتونة تصيبها الشمس خاصة ولا الظل خاصة ولكن يصيبها هذا في وقت وهذا في وقت، وقال الفراء والزجاج: المعنى لا شرقية فقط ولا غربية فقط لكنها شرقية غربية أي تصيبها الشمس عند طلوعها وغروبها، وأنت تعلم أنه لابد من تقدير قيد فقط بعد كل من {شَرْقِيَّةٍ} كما سمعت ليتوجه النفي إليه فيفيد التركيب اجتماع الأمرين وإلا فظاهره نفيهما، وعن المطلع أن هذا كقول الفرزدق:
إذ معناه شاموا سيوفهم وأكثروا بها القتلى، وتعقبه في الكشف بأنه لا استدلال بالبيت على ذلك لجواز أن يريد لم يشيموا غير مكثري القتلى على الحال وإفادته المعنى المذكور واضحة حينئذ، وعن ابن عباس أنها في دوحة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب، وتعقب بأن هذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها، وعن الحسن أن هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية، وعن عكرمة أنها من شجرة الجنة ولعله إنما جزم بذلك لما ذكر الحسن ولا يخفى ما فيه، وقرأ الضحاك {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} بالرفع أي هي لا شرقية ولا غربية.وقال أبو حيان: أي لا هي شرقية ولا غربية، ولعل ما ذكرنا أولى، والجملة في موضع الصفة لزيتونة.{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضي بنفسه من غير مساس نار أصلًا، وكلمة {لَوْ} في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتقاء الشيء لانتفاء غيره في الزمان الماضي فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له إجمالًا بإدخالها على أبعدها منه، والواو الداخلة عليها لعطف الجملة المذكورة على جملة محذوفة مقابلة لها عند الجزولي ومن وافقه، ومجموع الجملتين في حيز النصب على الحالية من المستكن في الفعل الموجب أو المنفي، وتقدير الآية الكريمة {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء لَوْ مَسَّتْهُ نَّارٍ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي يضىء كائنًا على كل حال من وجود شرط الإضاءة وعدمه، وحذفت الجملة الأولى حسبما هو المطرد في الباب ثقة بدلالة الثانية عليها دلالة واضحة.وقال الزمخشري: الواو للحال ومقتضاه أن {لَوْ} مع ما بعدها حال فالتقدير والحال لو كان أو لو لم يكن كذا أي مفروضًا ثبوته أو انتفاؤه، لكن الزمخشري ومثله المرزوقي يقدر ولو كان الحال كذا.وتعقب ذلك بأن أدوات الشرط لا تصلح للحالية لأنها تقتضي عدم التحقق والحال يقتضي خلافه، والتزم لذلك أنه انسلخ عنها الشرطية وأنها مؤولة بالحال كما أن الحال تكون في معنى الشرط نحو لأفعلنه كائنًا ما كان أي إن كان هذا أو غيره ولذا لا تحتاج إلى الجزاء أصلاف، وإنما قدر الحال بعد لو على ما قيل: إشارة إلى أنه قصد إلى جعل الجملة حالًا قبل دخول الشرط المنافي له ثم دخلت {لَوْ} تنبيهًا على أنها حال غير محققة؛ واعترض الرضي القول بأنها عاطفة بأنه لو كان كذلك لوقع التصريح بالمعطوف عليه في الاستعمال وليس كذلك وذهب إلى أنها اعتراضية.ويجوز الاعتراض في آخر الكلام والمقصود منه التأكيد.وأجيب عن اعتراضه بأن ظهور ترتب الجزاء على المعطوف عليه أغنى عن ذكره حتى كان ذكره تكرارًا، وبالجملة الذي عطف عليه الأكثرون وارتضوه كونها عاطفة، وبجعل مجموع الجملتين في موضع الحال على ما سمعت يندفع ما يتوهم من أن كاد تنافي اعتبار العطف هنا فتأمل، وقرأ ابن عباس والحسن {يمسسه} بالياء التحتية وحسنه الفصل وكون الفاعل غير حقيقي التأنيث {نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ} أي هو نور عظيم كائن على نور على أن يكون {نُورٍ} خبر مبتدأ محذوف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة، والجملة فذلكة للتمثيل وتصريح بما حصل منه وتمهيد لما يعقبه فالمراد من الضمير النور الذي مثلت صفته العظيمة الشأن بما سمعت لا النور المشبه به وحمله عليه لا يليق كما قيل بشأن التنزيل الجليل، وليس معنى كونه نورًا فوق نور أنه نور واحد معين أو غير معين فوق نور آخر مثله ولا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل إنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره بسبب انضمام الشعاع المنعكس منه إلى أصل الشعاع بخلاف المكان المتسع فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقًا ويمده بإضاءة مرتبة أخرى عادة.والظاهر عندي أن التشبيه الذي تضمنته الآية الكريمة من تشبيه المعقول وهو نوره تعالى بمعنى أدلته سبحانه لكن من حيث أنها أدلة أو القرآن أو التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل أو الهدى أو نحو ذلك بالمحسوس وهو نور المشكاة المبالغ في نفعته وأنه ليس في المشبه به أجزاء ينتزع منها الشبه ليبنى عليه أنه مركب أو مفرق، وذكر أنه إذا كان المراد تشبيه النور بمعنى الهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات فهو من التشبيه المركب العقلي وقد شبه فيه الهيئة المنتزعة بأخرى فإن النور وإن كان لفظه مفردًا دال على متعدد وكذا إذا كان المراد تشبيه ما نور الله تعالى به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها، وفي الحواشي الطيبة الطيبية بعد اختيار أن المراد بالنور الهداية بوحي ينزله ورسوله يبعثه ما هو ظاهر في أن التشبيه من التشبيه المفرق بل صرح بذلك أخيرًا، واستدل عليه بأن التكرير في الآية يستدعي ذلك وقد أطال الكلام في هذا المقام، ومنه أن المشبهات المناسبة على هذا المعنى صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبه الشريف واللطيفة الربانية فيه والقرآن وما يتأثر منه القلب عند استمداده.والتفصيل أنه شبه صدره عليه الصلاة والسلام بالمشكاة لأنه كالكوة ذو وجهين فمن وجد يقتبس النور من القلب المستنير ومن آخر يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق وذلك لاستعداده بانشراحه مرتين مرة في صباه وأخرى عند أسرائه قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ} [الزمر: 22] وهذا تشبيه صحيح قد اشتهر عن جماعة من المفسرين، روى محيي السنة عن كعب هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم المشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة والشجرة المباركة شجرة النبوة، وروى الإمام عن بعضهم أن المشكاة صدر محمد عليه الصلاة والسلام والزجاجة قلبه والمصباح ما في قلبه من الدين، وفي حقائق السلمي عن أبي سعيد الخراز المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه الشريف والمصباح النور الذي فيه، وشبه قلبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري لصفائه وإشراقه وخلوصه عن كدورة الهوى ولوث النفس الأمّارة وانعكاس نور اللطيفة إليه وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب.أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القلوب أربعة قلب أجود فيه مثل السراج يزهر وفيه أما القلب الأجود فقلب المؤمن سراجه فيه نوره» الحديث، وشبه نفس القرآن بالشجرة المباركة لثبات أصلها وتشعب فروعها وتأديها إلى ثمرات لا نهاية لها قال الله تعالى: {كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا في السماء تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} [إبراهيم: 24، 25] الآية.وروى محيي السنة عن الحسن وابن زيد: الشجرة المباركة شجرة الوحي يكاد زيتها يضىء تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم تقرأ.وشبه ما يستمده نور قلبه الشريف صلوات الله تعالى وسلامه عليه من القرآن وابتداء تفويته منه بالزيت الصافي قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جعلناه نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن} [الشورى: 25] فكما جعل سبحانه القرآن سبب توقده منه في قوله تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة} جعل ضوءه مستفادًا من انعكاس نور اللطيفة إليه في قوله عز وجل: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}.والمعنى على ما ذكر في إنسان العين يكاد سر القرآن يظهر للخلق قبل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه مسحة من معنى قوله: ومنه وصفت الشجرة بكونها لا شرقية ولا غربية وعن ابن عباس تشبيه فؤاده صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدري وأن الشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام.ومعنى لا شرقية ولا غربية أنه ليس بنصراني فيصلي نحو المشرق ولا يهودي فيصلي نحو المغرب.والزيت الصافي دين إبراهيم عليه السلام، وقد يقال على تفريق التشبيه لكن على مشرع آخر شبه القرآن بالمصباح على ماس بق ونفسه صلى الله عليه وسلم الزكية الطاهرة بالشجرة لكونها نابتة من أرض الدين متشعبة فروعها إلى سماء الإيمان متدلية أثمارها إلى فضاء الإخلاص والإحسان وذلك لاستقامتها بمقتضى قوله تعالى: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] غير مائلة إلى طرفي الإفراط والتفريط وذلك معنى قوله تعالى: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَإِلاَّ غَرْبِيَّةٍ} ويشبه ما محض من تلك الثمرات بعد التصفية التامة للتهيئة وقبول الآثار بالزيت الصافي لوفور قوة استعدادها للاستضاءة للدهنية القابلة للاشتعال، ومن ثم خصت شجرة الزيتون لأن لب ثمرتها الزيت الذي تشتعل به المصابيح، وخص هذا الدهن لمزيد إشراقه مع قلة الدخان يكاد زيت استعداده صلوات الله تعالى وسلامه عليه لصفائه وزكائه يضىء ولو لم يمسسه نور القرآن، روى البغوي عن محمد بن كعب القرظي تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه، قال ابن رواحة:
|